قصاصات ورق تروى الحدث.. في ركن الماضي البعيد كانت وكانوا .. في الحواري الخالدات والزقاق المتعب كانوا.. اناس بلا ماض ولا حاضر بلا وتد ولا جذر ..يبحثون في التفاصيل عن الأمل .. ويرون بالبساطة ما حدث .. أيرون الواقع الدفين..؟؟ سؤال بلا مجيب..يحكون فلا يحكون .. بلا أسباب تبقى الأحداث تطفو في دوامه الوهم الرزين.. فمهما كان ..هذا ما كان.. ويبقى الصمت اللعين أمام سذاجة وجهل الحاضرين ..عندها ضاعت سلاف...
كانت هي وما كان سواها صاحبة الجدائل الحمراء والضحكة المشرقة تراها فترا الصبح في عينيها والبراءة تبعث من مبسم شفتيها..وكانت سلاف ..لا تسمع الا خطاها ولا ترى إلا سلاف..وما سلاف ..؟
الطفلة التي ما عادت طفلة بل باتت نسمة الحي التي تعلن الشروق والغروب وتقف خلف بوابة الأحلام تروى القصص وتحكي الحكم وتشهد على التاريخ في زمن الصمت اللعين.. تكتب همساتها سر الحي الدفين وتروي خصلات شعرها معنى استنباط الحياة من جسد الموت في ظلمت الواقع المرير .. وهنا كنا وهنا كانت نرقب خطوتها ونرقص مع دقة معصمها للأرض نسعى للسلام للبهجة التي ليس لها حدود للسكر في دوامة الصحو الأكيد .. كان مرورها كالحلم الجميل كلمسة الأمل للشفاه العطشى في الصحاري المقفرة هكذا وصفها الشغف في العيون الصمت في الشفاه .. وتبقى الأيام هي الشاهد الوحيد على الحدث.... دوما في ذاكرة الزمن الذي لا ينسى ولا يغفر.. فعندما تدق لحظة النهاية يعود الواقع ليستذكر البداية ومن هنا تبدأ الرواية.. رواية تحكي قصة حي الياسمين ..
**********
في إحدى الأيام وفي ساعة من الساعة التي وقف الزمن عليها.. في الحواري السعيدة التي تملئها البساطة والأحاديث والأقاويل كانت تعيش جهينة الفتاة الجميلة صاحبة الخطوة الرقيقة والنسمة الفواحة التي تزين الحي .. لا يأنف باب بيتها يقرع ليستقبل الخطاب والمتقربين دون أن تبالي بهم ولا بنظراتهم إليها.. فقد كانت أكثر طموحا من أن تقف عن حدود الحي القديم بل كانت تريد الحياة التي لا حد لها ولا بوابه .. تصيغ نهجها نقوشا ترسم لها السعادة وتنقلها من فقرها لتجعلها أميرة وعروسا للياسمين وليست عروسا في حي الياسمين..
..كانت تكره حياة البؤس ولا تجد أنها خلقت لأناملها الرقيقة .. وكانت ترى أنا مزاجها لا يتناسب وجهل من حولها بأبسط الأشياء التي تمنح للحياة معنى .. فكرهت أن تكون إحدى نساء الحي الثرثارات التي لا يملئن وقتهن إلا بالأقاويل التي كانت تستطيع سماعها من نافذتها لتقارب البيوت من بؤس ذات الحال حيث كانت بيوت الحي تتشارك بالجدران.. وما كانت تريد أن تكون كأمها سيدة منزل كما تراها جدتها على الأصول لا تأنف تعمل بالمشاغل والبيوت وتدير شؤون بيتها حتى لم يتبقى من أنوثتها شيء يذكر سوى اسمها ريما.. ومن ريما.. إحدى نساء الحي الثرثارات اللاتي يتناقلن الأخبار تهامسا من عيون بعضهن فما كانت تتحدث إلا في عيوب الأخريات وكأنها رمزا للكمال ..وكانت علاقة ريما ببنتها رثة ويشوبها الحقد والحسد فقد كانت جهينة تفوق ريما أضعافا بالجمال ..فتجد بينهما تناغما غريبا حينا
وتنافرا شديدا حينا أخر..فجعل هذا من جهينة اغلب الأحيان حبيسة غرفتها بوجود ريما في المنزل تجنبا لها ولفتور الحال بينهما ..
وفي إحدى الأيام الممطرة وفي وقت من الليل قريب كان السكون يعم الحي القديم ورائحة المطر تتسلل أعتاب نافذة جهينة لتعبق في غرفتها وتيقظها من سكونها على صوت قرع المطر لنافذتها وترسلها الى جو الطمئنية والسعادة الدفين.. حيث تخرج فيه ضحكات النفس شهقات من أعماق الروح.. فترسم لشفتيها ابتسامة تعبر عن حال نفسها.. وتحكى ما هي علية نظرات عينيها.. ما كانت لتعلم أن يومها هذا إلا كسائر أيامها الى أن غبطة نفسها جعلتها تحس أن هناك ما هو أكثر في انتظارها ..
فنهضة من سريرها تنظر المطر المتناثر على قارعة الطريق تحت أجراس الياسمين التي ترجف رقصا أمام الخير الذي يعم الحي القديم ويغسل حجارة البيوت المتهاوية ويدق أسقفها المتآكلة..
حينها كان المطر يدق كتف الشاب الذي يقف على قارعة الطريق غارق في نظراته في محياها البريء وتسحر كيانه عفوية ملامحها وبشاشة عينيها الخجولتين خلف ستار المطر فتأكد من أنها الملاك التي لطالما بدت له ملاك جهينة عروس الحي وزهرة الياسمين الأجمل في المنطقة المكللة بزهرها ..
لوهلة أدركت فيها وعيها ولمحة أن هناك من يقف أمامها فمن هذا الذي يقف وسط الحي غارق في المياه ينظر إلى نافذتي.. فرجفت روحها وتراجعت دون أن تتراجع في نفسها.. اذ انه هوا لا يوجد سواه عاشق مجنون لا يخاف أن تراه العيون .. أو أن تمتص حجارة الأرض دقات قلبه وتحكي لحجارة المنازل عن حال نفسه.. فما عساها دقات قلبي لا تزال تلوم بي أمام عظمة حبك المستحيل وإصرار نفسك على كتابة ما لا اقدر أن أبوح به لنفسي أو للآخرين ..فكيف عساي ارضخ لهمسات قلبينا التي ترى الحياة بخطاك قربي ولا تراها من دونك.. فأين أنا منك وأين أنت مني.. فلا تنحني زهرة الياسمين لتعانق الأرض إلا في الخريف وأنا في ربيع العمر ولا أجد يوما لي خريف.. لا استطيع أن أناديك بالرحيل لكن لا وجود لك في حياتي التي أراها اكبر مما تستطيع ..
أطفأت مصباحها على وقع الآم روحها التي تكابر الواقع ..فنسحب ظل العاشق بانكسار روحة وأدرك أنها الشعلة التي ستحرقه إن اقترب أكثر لكنه لن يستطيع يوما أن يعيش بعيدا عن وهجها فهيا مرشده ودليلة في عتمة ووحشة الحياة .. ياسر الشاب الجريء العاشق. كان يرسم في الحي العتيق صورا للوجوه فيأكل منها وينام ويسعى لان يكون أكثر من رسام فهو الشاب اليتيم الذي عاش حياة التسول والفقر بأبشع صورها وواجه غدر الحياة بالتعبير المرير على الورق.. فكانت ريشته المواسي ومصدر الرزق الذي يرضيه لكنه لا يرضي جهينة عروس الحي العتيق لكنه يعيش على الأمل .... من هنا كتبت المأساة التي خطها ماضي اليوم وحاضر الأمس حيث حان الرحيل وجاء حلم جهينة الكبير وجاءها سيد المجتمع المخملي ليبعدها عن مزبلة العيش الذي تكره .. وما تركت جهينة سوى ورق وملامح بالفحم والزيت على دفتر.. أهذا ما أعيش به من بعد محياك أهذا ما ستطفو عليه أحلامي.. ما حلمت الا بك وما رسمت أجمل من ملامحك يا ملاكي في الحياة ماذا ستكونين لي في مماتي وقد ورميت سهمك في عظامي فكنت قاتلتي بعد أن أحييت في نفسي الأمل وكان ما كان بعدك سيان .. ما رأيت جمال فتاة سواك بالابيض تزف لغدر زماني ياسمينة الحي عروس حياتي تخفي تقاسيم محياها الخجول تحت طرحة العرس وتلبس فستاني يحكي فيه جسدها النحيل قصة حياتي أذا أهذا الوداع أم عله نعشي في الحياة ..
هذا ما قالته عيناي ياسر في لحظة الزفاف من دون أنيس أو مواسي سو ريشة في يده تحكي ما في نفسه وتصور روحة على الورق وتخط تفاصيل جهينة للتاريخ كي لا تنسى ..